القدرية... والعلم

تصنيف أولي: 

كلمة حكيم القدر و العلملطالما تنازعت الفلاسفةَ والمفكرين ورجال الدين أفكارٌ متلاطمة حول سيرورة الوجود وموجوداته من الأحياء والجمادات، فانقسموا جميعاً، بين بعضهم البعض وفي داخل كل جماعة منهم، إلى فئة تقول بالجبرية أوالقدرية وأخرى تقول بحرية الاختيار، وثالثةٍ تجمع بين الاثنتين؛ حيث تعني القدرية أن كل ما يحدث في هذا الكون ولجميع مكوناته، بما فيها الإنسان، مقدرٌ ومرسوم سلفاً وليس للموجودات أي خيار آخر سوى تنفيذ القدر، فيما تعني حرية الاختيار أن لهذه الموجودات كامل الحرية في خط مسيرتها في هذا الوجود وليس هناك شيءٌ معد لها بشكلٍ مسبق، أما الفئة الثالثة فتخضع بعض الحوادث للقدر وتمنح لموجودات الكون حرية الاختيار في بعضها الآخر.

 

غني عن القول إن هذه المذاهب الفكرية كانت وليدة تفكير ذي نمط فلسفي، والمقصود بالفلسفي هنا أنه غير علمي أي أنه لا يتبع قواعد المنهج العلمي في التفكير والذي يرتكز على التجربة المادية كوسيلة وحيدة للبرهان على الفرضية المطروحة، لذلك سأقوم في هذه المقالة بتحليل فكرتي القدرية وحرية الاختيار استناداً لآخر ما توصل إليه العلم الحديث في مجالٍ يبدو ذا صلة وثيقة بذلك الموضوع، أعني الخريطة الجينية للكائنات الحية. لا بد من الإشارة هنا إلى أن القدرية وحرية الاختيار أفكار ليست مقتصرة على الموجودات الحية فقط بل يمكن استقصاؤها أيضاً في تلك العناصر غير الحية في الكون، كالمنظومات الكونية بجميع عناصرها مثلاً، حيث يمكن لأي ملاحظ عادي أن يطرح سؤالاً مشروعاً عما إذا كانت تلك العناصر أيضاً مسيرة أم مخيرة، لكن المجال هنا لن يتسع لمناقشة الحالتين معاً ويمكن الاكتفاء في حالة الموجودات غير الحية بالقول إن قوانين الفيزياء والكيمياء تقوم مقام الجينات الموجودة في الكائنات الحية (مع ملاحظة أن الكائنات الحية نفسها تخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء أيضاً) وبالتالي فإن ما سنتوصل إليه لدى تلك الأخيرة فيما يخص الفكرة موضوع النقاش يمكن أن ينطبق تماماً على الموجودات غير الحية مع استبدال الجينات بقوانين الفيزياء والكيمياء، أو قوانين الطبيعة عموماً.

ما علاقة الجينات بالقدرية؟ قد يبدو للوهلة الأولى أن لا علاقة بينهما لكن الحقيقة أنهما شيءٌ واحد، فالجينات ليست إلا مخططات ترسيمية مسبقة للكائنات الحية تحتوي على جميع المعلومات اللازمة لنشوء الكائن الحي وتطوره منذ التقاء النطفة الذكرية بالبويضة الأنثوية؛ تحدد الجينات ما سيكون عليه ذلك الكائن الحي الوافد إلى الوجود من جنسه إلى مكوناته العضوية إلى وظائفه الفيزيولوجية إلى بنيته النفسية وحتى الأمراض التي سيصاب بها، والأدهى من ذلك أنها تحدد أيضاً توقيت موته وزواله من الوجود - المقصود هنا الموت الطبيعي التالي للشيخوخة أو الموت الناجم عن المرض، أما الموت الناجم عن حادث خارجي فيبدو أن لا دور للجينات فيه وسأعود إليه لاحقاً. لا بد من الإشارة هنا إلى أن عدداً كبيراً من الأمراض التي تصيب الإنسان قد ثبتت مسؤولية الجينات عنها، مسؤولية تامة أو جزئية، أما البقية فلا أظننا سننتظر طويلاً قبل أن نكتشف علاقتها بالجينات بشكلٍ أو بآخر، يستثنى من ذلك فقط الأمراض التي تسببها العوامل البيئية، بما في ذلك تلك المسببة بالأحياء الدقيقة.

إذن الجينات ترسم لنا مسيرتنا في الحياة بنسبة مرتفعة أقدرها ب 70 %، لكن ما يثير الأسف أن ال 30 % المتبقية لاتعود إلى حرية الاختيار بل إلى البيئة المحيطة. لتوضيح ذلك سنتخذ مثالاً قوامه إنسان ما؛ إن جنسه وصفاته الخارجية وبنيته النفسية وملكاته العقلية (درجة ذكائه) وما سيصاب به من أمراض  جميعها أمور محددة بجيناته فقط، أما شخصيته وتكوينه الديني والفكري والثقافي والتعليمي والاجتماعي ودرجة نجاحه في تحقيق طموحاته ورغباته فهي أمور تسهم فيها الجينات والبيئة (المحيط الجغرافي والاجتماعي والسياسي والديني) بدرجة متساوية تقريباً مع أفضلية للبيئة، وبمشاركة هامشٍ ضئيلٍ جداً من حرية الاختيار المشروطة (كأن يقرر الإنسان تغيير دينه مثلاً لكنه لن يستطيع القيام بذلك إلا إذا كان متواجداً في مجتمع يسمح بذلك)؛ يبقى لدينا الأمراض التي تسببها العوامل البيئية والحوادث الخارجية التي يتعرض لها الشخص (كالمدنيين الذين يقتلون في الحروب أو بفعل الكوارث الطبيعية) فهنا قد لا يكون للجينات أي دور وإنما تضطلع البيئة والوسط المحيط بالمسؤولية التامة.

إذن ما هي المجالات التي تكون فيها حرية الاختيار مسؤولة بشكل مطلق عن القرار الذي يتخذه شخص ما؟ أي متى يستطيع واحدنا أن يقرر شيئاً ما لنفسه من دون تدخل جيناته أو بيئته المحيطة؟ في الحقيقة لقد تفكرت طويلاً في ذلك السؤال (وأدعو الجميع للتفكير ومحاولة الإتيان بمثال) فلم أستطع أن أجد مثالاً واحداً على قرار أتخذه دون توجيه من جيناتي و/أو بيئتي، لذلك يمكنني أن أقول الآن وبكل ثقة إننا مُسيَّرون بشكلٍ مطلق وليس بمقدورنا اختيار أي شيء بحرية تامة. لا يعني ذلك أن مسيرة حياتنا مرسومة بكافة تفاصيلها بشكلٍ مسبق بل يعني أن خطواتنا في الحياة محددة بجيناتنا وبيئتنا بشكلٍ كبير بما يجعل خياراتنا فيها محدودة ومقيدة، لا حرة. قد تبدو تلك النتيجة قاتمة وسلبية لكننا إن أمعنا النظر قليلاً سنجد أنها تتوافق تماماً مع منظومة الطبيعة - والتي لسنا سوى أجزاء منها - التي تسير وفق قوانين معدة سلفاً تحكم جميع موجوداتها؛ وبغض النظر عن مصدر تلك القوانين وهذه القدرية، الأمر الذي قد لا يكون بمقدورنا إدراكه، فإن ما يعنيني أن القدرية أصبحت الآن أمراً مثبتاً علمياً ولم تعد فكرة محتملة أبدعها خيال فيلسوفٍ متأمل.

 

د. أيهم أحمد

hakeem@med-syria.com