الروحانية والجينات

تصنيف أولي: 

كلمة حكيميشير مصطلح الروحانية إلى معنى أوسع بكثير من مجرد الإيمان بالله تتألف عناصره من مشاعر وأفكار ورؤى يكون وصفها في الغالب صعباً إن لم يكن مستحيلاً، وهي ترتبط بأكثر مجالات الحياة البشرية انتشاراً: الدين، لكن الدين هو بالتأكيد أكثر من مجرد تظاهرٍ عام للروحانية، والمؤسسات الدينية تعمل كمدارس ومحاكم وهياكل وملاك أراضٍ ومستشارين، وكذلك كأماكن للعبادة والصلاة، فما العلاقة بين هذه الوظائف المتنوعة وبيولوجيا الروحانية؟

تظهر الدراسات الحديثة أن التدين يتضمن عنصراً جينياً لكنه أضعف بكثير من العنصر الجيني للروحانية؛ فالدين، على العكس من الروحانية، ينتقل أساساً بالميمات Memes وليس بالجينات، والميمات وحداتٌ ثقافيةٌ تنسخ ذاتها وأفكارٌ تنتقل من فردٍ إلى آخر عبر الكتابة والكلام والشعائر والمحاكاة، لذلك، في حين تجعلنا جيناتنا مستقبلين للروحانية والإيمان، تقوم ميماتنا بنقل الدين من جيلٍ إلى الجيل الذي يليه، وهذا ما يجعل كل دين متميزاً عن غيره ( تُعد الفكرة التي تعتبر الزواج من شخصٍ غير مؤمنٍ إثماً من أقوى الميمات ).
 لقد رافقتنا المعتقدات الروحانية منذ بدء التاريخ المدون، ولم تعترها أي علامةٍ من علامات الوهن بالرغم من تنامي التساؤلات العلمية في القرن الأخير. مع ذلك، لا يزال هناك ميلٌ كبيرٌ لوضع العلم والروحانية ( أو الدين ) في مواجهة بعضهما وكأنهما عدوان حقيقيان، لكنهما في الواقع ليسا كذلك، وكما قال ألبرت أينشتاين: "الدين أعمى بدون العلم؛ العلم مُقعَد بدون الدين".
يعتقد علماء النفس وعلماء اللاهوت أن معظم الناس لديهم قدرةٌ روحانيةٌ ما تُعدُّ من أكثر القوى فعاليةً وتغلغلاً في حياة الإنسان، وهي مثبتةٌ في التاريخ المدون لدى جميع الحضارات والثقافات، وفي كل ركنٍ من أركان الكوكب، وتشكل مركز الثقل في حياة العديد من الأشخاص.
ولا تزال معتقداتنا الروحية قويةً حتى يومنا هذا، حيث تظهر الاستبيانات أن أكثر من 95% من الأمريكيين يؤمنون بالله، و90% يتأملون أو يصلون، و82% يعتقدون أن الله يصنع المعجزات، وأكثر من 70% يعتقدون بوجود حياةٍ بعد الموت. وليس هذا غريباً أو خاصاً بالأمريكيين، إذ حتى في الصين والاتحاد السوفييتي السابق – حيث بذلت الحكومات القوية كل ما في وسعها من وسائل الإقناع لتستبدل الله بالشيوعية – بقي أكثر من نصف السكان محتفظين بإيمانهم. ولا تنعكس قوة هذه المعتقدات بالضرورة في ارتياد الكنائس أو أماكن العبادة؛ في الواقع يتناقص عدد مرتادي الكنائس في الولايات المتحدة بشكلٍ ثابت منذ الخمسينات، ويزداد عدد الأشخاص الذين يرون أن الكنائس تشدد على التنظيم أكثر مما تهتم بالروحانية، كما "يتزايد الانفصال بين الإيمان والانتماء".
يمكن أن تُفَسَّر هذه الهوة بين ضعف الالتزام بالمظاهر الدينية الرسمية وبين ارتفاع نسبة الأشخاص الذين يؤمنون بالله بالحقيقة القائلة إن الروحانية متميزةٌ تماماً عن المُدرَكات العقلية لأي دين؛ ويشعر أكثر من ثلاثة أرباع الأشخاص المستَفتين أن الله يستطيع أن يتجلى ويُظهرَ نفسه بوسائل مختلفة، لذلك هناك شعورٌ متنامٍ بأنه ليس مهماً إلى أي كنيسةٍ تذهب لأنها "كلها جيدة بدرجةٍ واحدة".
لماذا تشكل الروحانية سمةً قويةً وعالمية الانتشار؟ ولماذا يؤمن العديد من الناس بأشياء لا يستطيعون رؤيتها أو شمها أو تذوقها أو سماعها أو لمسها؟ لماذا يقدر الناس من جميع أنحاء الأرض ومهما تكن خلفياتهم الدينية والآلهة التي يعبدونها الروحانية بقدر ما يقدرون، وربما أكثر، اللذة أو القوة أو الثروة؟
تكمن الإجابة، ولو جزئياً، في جيناتنا؛ فالروحانية ليست إلا إحدى موروثاتنا البشرية الأساسية، إنها في الحقيقة غريزة.
لوهلةٍ قد تبدو كلمة غريزة غريبةً لتُقرَنَ بالروحانية، فنحن اعتدنا أن نفكر بالغرائز على أنها ردود فعلٍ أو أنماطٌ سلوكيةٌ آليةٌ وغير واعية يتم إنجازها بدون تفكيرٍ أو تدريب، والأمثلة كثيرة: فهجرة العصافير جنوباً في الشتاء غريزة، وطرفة العين عندما نتعرض للكمة غريزة، وتعلم الطفل الوليد الرضاعة من ثدي أمه غريزة، كما إن شعورنا بالإثارة حيال منبهٍ جنسي غريزة؛ أما السلوكيات الروحانية كالتأمل أو تناول القربان المقدس فهي على العكس ليست آليةً ولا لاواعية، إنها أنشطةٌ قصديةٌ ومكتسبةٌ بالتعلم.
لكن الروحانية ليست غريزةً بسيطةً كتلك التي ذكرت أعلاه، وإنما مركبٌ معقدٌ تتشابك فيه نماذج بيولوجيةٌ موروثةٌ معينةٌ وحالاتٌ للوعي مع خيوطٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ وتاريخية، وهذا التشابك بين البيولوجيا والتجربة هو الذي يجعل من الروحانية قطعة كانافا مزخرفة نولها الطبيعة ونسيجها التربية.
 

د. أيهم أحمد

hakeem@med-syria.com

 

مواضيع لها علاقة:

غشاء البكارة

الحقيقة المرة: هل الطب ناجح؟